"Fake News – Fake Truth"
السبت, 30.03.19, 20:00
الأربعاء, 06.11.19
:
سفيتلانا رينجولد
لمعلومات إضافية:
046030800كلما أمعنا النظر في "أكاذيب" الفن سنجد أن الحقيقة قابعة في نهاية طريق الكذب. هل الفن محكوم للحقيقة؟ أليس من الجائز أنه في عصر ما بعد الحقيقة لا مفر للفن من قول الحقيقة؟ أيجوز أنه في عصر تفقد فيه الثقافة شيئاً فشيئاً تمسكها بالحقيقة – فإن الفن ربما هو آخر حيِّز لا يمكنه قول "نعم" للكذب؟
(جدعون عوفرات، فن وكذب، 2017)
وردت في كتاب التوراة عبارة "أكذوبة البهاء وغرور الجمال" (سفر الأمثال، ل.أ، 30). كما يبدو فإن ثقافتنا آثرت رفض هذه الحكمة القديمة واعتمدت الكذب والمظاهر الكذابة كمُسلمات مفروغ منها. في هذا السياق كتب مؤرخ الفنون جدعون عوفرات أن "الدعايات التجارية لا تتوقف عن الكذب علينا [...] ورجال السياسة لا يتوقفون عن قطع الوعود الكاذبة عشية الانتخابات من خلال "رؤى سلام" لا طائل منها، ووكلاء العلاقات العامة والمتحدثون باتوا مأجورين يتقنون فن الكذب والتلفيق. أينما نذهب ونفتح آذاننا وعيوننا ستلفنا الأكاذيب وتحيط بنا. كما لو أننا سلمنا بحكم اللا- حقيقة كأنه مصير وجودنا".
كتبت الفيلسوفة حانا أرندت في مقالة لها بعنوان الحقيقة والسياسة (1967) إن النطق المنتظم بالأكاذيب هو في واقع الأمر من الممارسات الثابتة في الحُكم. فالحقيقة من وجهة نظر السياسة تحمل طابعاً ديكتاتورياً، ولهذا فإن الدكتاتوريون يخافون من قوتها. حين تستبدل الأكاذيب الحقيقة الواقعية بطريقة تتابعية تتعطل قدرتنا على الإلمام بالعالم الملموس. الأديب ألن هرينجتون أوجد في كتابه بعنوان الحياة في القصر البلوري (1959) مصطلح "الحقيقة المتنقلة" حين تطرق إلى كيفية تحويل الحقيقة الخاصة بشركة اقتصادية إلى حقيقة شاملة. الكاتب جورج أورويل في كتابه بعنوان 1984 (1949) وصف شكل التفكير المميز ("تفكير مزدوج"، "doublethink") الذي يسمح لنا بالإيمان بحقيقة عقيدتين متناقضتين في آن واحد.
يبدو أن هؤلاء الأدباء والمفكرون قد أجادوا توقع هذه الظاهرة التي اتسعت كثيراً منذ ذلك الحين. الآن بات لدينا متنوَّع كبير من المصطلحات التي تشير إلى تشويه الحقيقة: "صدق" (truthiness)، "ويكياليتي" (wikiality) (القدرة على إعادة كتابة الواقع من خلال تحرير صفحات موسوعة ويكيبيديا)، "الأخبار الملفقة" (fake news) و"الحقائق البديلة" (alternative facts). أما الباحث في عالم الإعلام السياسي جيسون هرسين فقد أوجد المصطلح "نظام ما بعد الحقيقة" للتأكيد على أننا بصدد تحوّل حاسم يدل على عمل منهجي لم يسبق له مثيل عبر التاريخ. وعلى حد قوله فإن الساسة يستخدمون مناورات ذكية للسيطرة على النقاش الجماهيري والتحكم بمشاعر المواطنين.
هذا التحوّل الثوري لتمويه الحدود بين التلفيق والواقع في عالم تسيطر عليه سياسة ما بعد الحقيقة هو جوهر مجموعة الأعمال في هذا المعرض. فالأعمال المعروضة في المعرض تؤكد بان الحقيقة ذاتها تحولت إلى مجرد خيار واحد من أصل متنوع من وجهات النظر في عصر يدور فيه صراع علني بين من يحاولون صياغة نظام صلب وبين معارضيهم الصاخبين. يستخدم الفنانون متنوع من الاستراتيجيات للغش والتلفيق- مثل استخدام شخصيات وهمية، أحابيل مازحة وتدخل في الحياة الحقيقة من خلال الانتحال. هذه الممارسات تأتي لتسليط الضوء على أزمة الثقة في ثقافة الإعلام، وخاصة بعد التأثير الحاسم للإنترنت. إنها تدربنا على التشكيك والارتياب، لكنها كذلك تثير جدلاً حول إمكانية اكتساب الثقة.
زعم عدي أوفير وأريئيلا أزولاي أنه لأجل خلق نظام مختلف عن النظام القائم يتعين علينا أن نتخيل باننا نحن حُكّام الدولة التي قد تتغير وفقاً لحاجات كل مواطنيها. هكذا يتحول الفنانون المشاركون في المعرض إلى أشبه بهيئات أكبر منهم (مجموعات إنترنت، شركات ضخمة، جيوش، دول قومية وغيرها) ويستخدمون لغتهم ورموزهم الجمالية وذلك لكشف الأجهزة التي تبني الواقع ولإيجاد ملاذ من الاضطهاد. وفي هذا السياق يؤكد الفيلسوف سيلفيو جيجيك نجاعة عملية التنكر المستهزئ. وعلى حد قوله "ان تكون أكذب من الكذب" هي خطوة أكثر ثورية من توجيه النقد المباشر للكذب، ذلك لأن هذا التطرف يفضح النية الحقيقية المختبئة داخل العباءة الأيديولوجية.
كما وتتابع مجموعة المعارض انشغال الفنانين منذ سنوات السبعينات حتى الآن بالعلاقة التبادلية بين المعلومات الكاذبة وبين وسائل نشرها – من الطباعة التقليدية والبث في الوسط التلفزيوني الإعلامي وحتى شبكات التواصل الاجتماعي المنتشرة حالياً. الفنانون يشيرون إلى نسبية الحقيقة المبثوثة التي هي في الأصل من تحريفات ومصالح مختلفة، ويختبرون كيف أن خصائص وسائل الإعلام الحالية تضع عقبات في طريق الحقائق بسبب تفضيل التصويرة، الحكاية الجذابة والجمالية الترفيهية.
تؤكد حانا أرندت أن في العصر الذي بات الجميع فيه يكذبون فقد صار قول الحقيقة عامل سياسي من الدرجة الأولى. من يقول الحقيقة يزج بنفسه إلى المعمعة السياسية وإن نجا منها فسوف يبدأ المسيرة نحو تغيير العالم. الفنانون المشاركون في المعرض يسعون لتكوين عالم بديل، بل يسعون لأن يتحقق هذا التكوين بوسائل عملية بينما هم أنفسهم وبيئتهم يشكلون الوسط الإعلامي لتلك الأعمال ولخلق العالم الحقيقي.
أمينة المعرض: سفاتلينا راينجولد