فن خطير
نلاحظ في الآونة الأخيرة اهتماماً واسعاً في البلاد وفي العالم بمسألة دمج العمل الفني مع الفاعلية الاجتماعية. وهذا الدمج المُسمى "artivism" يسعى بطرق مختلفة للمساواة بين قيمة هذين المبدأين المركبين: Art ו-Activism. يشدد نقد الفن المعاصر على الفكرة القائلة أن بمقدور الفن في عصرنا أن يكون ساحة فاعلية للاحتجاج السياسي. وكما يقول أمين المعارض والباحث الفني بوريس غرويس (Groĭs) فإن ظاهرة الفاعلية الفنية باتت مركزية في أيامنا لكوْنها ظاهرة جديدة تختلف عن الفن الناقد الذي كان شائعاً في خطاب العصرنة خلال القرن العشرين.
لقد رغب الفنّانون منذ بداية العصرنة بالظهور بمظهر الثوريين المنقلبين على الأعراف والمسلمات والمخترقين للحدود. فقد سعى تيار الفن الطلائعي (الأفانغارد) لتصويب سهامه نحو "الجهاز": شكل الحكم، المبنى الاجتماعي، تقسيم الثروة ومسائل فرض النظام والسيطرة. وقد عُلقت آمال كبيرة على الثورة التي قد يثيرها هذا الفن. ومجموعة المعارض الحالية تسعي لتمييز الممارسات الفنية المُقوِّضة في عصر يُجمع فيه الرأي العام بأن اللحظات الثورية قد انتهت وأننا نعيش الآن في عصر ما بعد الثورات، وهو عصر لا مجال فيه لقيام ثورة فنية-سياسية. فهل حقاً فقد الفن قوته الناقدة في ظل هذا العصر التي تقوم فيه الرأسمالية بقتل وتملُك كل شكل من أشكال النقد؟ أم العكس هو الصحيح – هل بمقدور الفن في عصرنا أن يطرح التحديات أمام النظام السياسي القائم أو يشكل خطورة عليه؟
وتنشأ الممارسات النقدية الفنية المعاصرة على خلفية انتشار عمليات التجانس الطامحة إلى تقليص بؤر الاحتكاك: "عداوات" تنشأ بين الفرد والمجتمع على حد تعبير الباحثين أرنستو لكلاو (Laclau) وشانتيل موف (Mouffe). وعلى حد قولهم ففي عصر ما بعد الديمقراطية وعصر الإجماع ما بعد السياسي المؤسس على الصورة الملساء التي تحاول رأسمالية الشركات الكبرى تقديمها والاحتفاء بها بصفتها تقدم أتم إحرازه بفضل الديمقراطية. إن واقع ما بعد الديمقراطية هذا يُختصَر في تنظيم العلاقات بين مؤسسات الدولة بموازاة القضاء على النقاشات والخلافات الجماهيرية كما يقول الفيلسوف جاك رنسيير (Rancière). وفي ظل هذا الواقع هناك من يولي أهمية كبيرة لقوة الصوت المميز الصادر عن الفاعل – الفرد. فالبُعد الشخصي للخطوة الفاعلة يتيح له إزاحة العربة الاجتماعية عن مسار الحياة الطبيعي. وبهذه الطريقة فإنه يحتج على قيام فضاءات ثابتة ومستدامة ويحتج على إمكانية معارضتها. يطمح الفنان إلى تحريك الخطاب الثوري من داخل الحرية والأصالة والفطرة والغريزة المدفونة داخل الفرد الفاعل - أسلحة "الفارس المتوحد".
إنتاج هذه المشاهد المسرحية وإعادة الكتابة والبريكولاج والمحاكاة الساخرة وتغريب حرية الجناس ما هي إلا جزء من تصاوير أنماط الاحتجاج التي يمارسها الفنانون الفاعلون. حيث يسعون من خلال هذه الممارسات إلى منح الصوت للأفواه المكمومة في نطاق الهيمنة القائمة. وفي المجال المرئي المعاصر هناك حضور للبعد السياسي-النقدي في تصاوير تعكس معاناة "الآخر" وكذلك في تصاوير تسعى لتحويل "الآخر" إلى فضاء لممارسة الفاعلية السياسية. ومن خلال التأشير إلى "الملموس"، فإن هذه التصاوير تدعو إلى العمل المدني أو تظهر كأعمال في بيئات سياسية واجتماعية متنازعة. وترتبط خصائص الـ artivism بشكل وثيق وفق مفاهيم عديدة بحركة "مشوشي الثقافة" التي برزت في نهاية القرن العشرين على أنقاض الثقافة المضادة التي نمت في سنوات الستينات وانشغلت بـ "العمل الميداني" ضد الشركات الكبرى.
الأعمال المعروضة في مجموعة المعارض هذه تأتي على الأغلب ليس فقط "لتمثيل" نضال المستضعفين، إنما أيضاً لخلق فضاء للتدخل الفاعل. فالأعمال تتطرق إلى تلك الفضاءات الاجتماعية التي تتفاخر الليبرالية الجديدة المعاصرة فيها بتوسيع الحقوق الممنوحة لهم مثل حقوق المرأة وحقوق مجتمع مثليي الجنس وحقوق اللاجئين أو الحق بالتظاهر والحماية. غير أن التسامح المنسوب لفكرة الليبرالية يُستخدم في أحيان عدة بطريقة تهكمية كورقة التين التي تأتي لتغطي عورة تفاقم انعدام المساواة الاجتماعية وانتهاك حقوق الإنسان. يسعى الفنانون المشاركون في مجموعة المعارض هذه للتحرر من الطوق الخانق لأيديولوجية السياسة المهيمنة وفضح ما تنطوي عليه من عدوانية وعنف غير مُبرر. وبهذه الطريقة يشارك الفنانون المعاصرون مشاركة فاعلة في إعادة تعريف الساحة السياسية في عصرنا.